إن الإرجاء من حيث هو موقف نفسي يمكن أن يوجد في هذه الفتنة العمياء وما تلاها، كما يمكن أن ينشأ في أي قضية مماثلة، فإن من سنن الاجتماع أن أي نزاع يشجر بين طائفتين قد يفرز فئة ثالثة محايدة -لأي سبب من أسباب الحياد- وهكذا وجد في عصر الفتنة الأولى وما تلاها أناس اتخذوا هذا الموقف الحياد في الجملة، ولكن شتان بين قوم وقوم،وإن كان موقفهما في الظاهر سواء.
فقد كانت الفئة المحايدة حينئذٍ تنقسم في حقيقتها أقساماً، بعضها وافق عين الصواب، وبعضها حاد عن الجادة، ووضع قدمه على طريق أوله الحياد وآخره الضلال، وذلك بحسب الدوافع الاعتقادية لموقف كل منهم.
وأصل هذا التفاوت أن الموقف العام نفسه يُعد فريداً في التاريخ، فليس هناك ما يمكن أن يشبهه من الخلافات الدينية أو السياسية في غير هذا الجيل المصطفى المختار.
وذلك أن العادة في مثل هذه الخلافات أن الحياد ليس إلا موقفاً سلبياً يمليه توازن المصالح أو التردد والشك، ولكننا هنا أمام صورة فذة يكون فيها الحياد -إن أسميناه كذلك- هو الموقف الإيجابي الذي يحتل مركز الأفضلية بحكم النصوص، في حين يتقاسم الطرفان المتنازعان مركزي الفاضل والمفضول.
وإذا كان طرفا النزاع هما أهل
الشام وأهل
العراق- وكلاً آتاه الله فضلاً- فإن الطائفة الفُضلى هي تلك المجموعة من كبار الصحابة رضي الله عنهم الذين أمسكوا عن الفتنة ولم يكونوا يرون السيف بين المسلمين أصلاً.
وليس إمساكهم مجرد حياد سلبي -وهو ما ينطبق على موقف
المرجئة فيما بعد- بل هو موقف إيجابي شرعي يستند على النصوص الثابتة، كما سنفصل بإذن الله.
وهذه الحقيقة غابت عن أذهان بعض العلماء، لا سيما من فقهاء
العراق ومن تبعهم، وكذا بعض أصحاب الأهواء قديماً- ثم تلاهم من تلاهم من الحاقدين وجهلة الباحثين المحدثين، الذين زادوا بأن نسبوا الصحابة للإرجاء أو نسبوا
المرجئة للصحابة.
ولكن -للإنصاف- لا بد أن نذكر سبب خطأ أولئك العلماء، وهو سبب كثيراً ما يقع فيه الباحثون، ألا وهو التعميم، ولو استخدمنا الاصطلاحات المنطقية لقلنا: إن هؤلاء جعلوا المحمول موضوعاً والموضوع محمولاً، فانقلبت القضية وكذبت.
فإن قضية: (إن
المرجئة ممسكون عن الفتنة صادقة) فإذا أصبحت القضية كل الممسكين عن الفتنة
مرجئة صارت كاذبة.
ولذلك كان لزاماً علينا أن نفصل أقسام المحايدين لنرى أن هذا الحكم إنما ينصب على بعضهم لا على الجميع:
1- الفئة الأولى:
بعض كبار الصحابة وأجلائهم رضي الله عنهم مثل:
سعد بن أبي وقاص, و
عبد الله بن عمر, و
أبي هريرة, و
زيد بن ثابت, و
أسامة بن زيد, و
محمد بن مسلمة، وغيرهم.
وقد آثرنا- إجلالاً منا لصحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واحتساباً في الذب عنهم- أن نفردهم بمبحث مستقل تال .
2- الفئة الثانية:
بعض سكان الأطراف والمرابطين على ثغور الجهاد، وهؤلاء كانوا يجالدون الأعداء، ويفتحون الأمصار، فما شعروا إلا والنبأ ينزل عليهم بمقتل أمير المؤمنين
عثمان كالصاعقة، ثم فوجئوا بما تلاه من أحداث، فما استطاعوا أن يستبينوا رأياً فيتبعوه أو يرجحوا طرفاً فيوالوه، فآثروا مسالمة الفريقين المتقاتلين والركون إلى حياد لا حيلة لهم في قبوله.
وعن هؤلاء يقول الحافظ
ابن عساكر: إنهم هم
الشكاك الذين شكوا، وكانوا في المغازي، فلما قدموا
المدينة بعد مقتل
عثمان، وكان عهدهم بالناس وأمرهم واحد ليس بينهم اختلاف، فقالوا: تركناكم وأمركم واحد ليس بينكم اختلاف، وقدمنا عليكم وأنتم مختلفون.
فبعضكم يقول: قتل
عثمان مظلوماً وكان أولى بالعدل وأصحابه.
وبعضكم يقول: كان
علي أولى بالحق وأصحابه.
كلهم ثقة وكلهم عندنا مصدق، فنحن لا نتبرأ منهما ولا نلعنهما، ولا نشهد عليهما، ونرجئ أمرهما إلى الله حتى يكون هو الذي يحكم بينهما.
فهؤلاء إن صح إطلاق الإرجاء على موقفهم فهو إرجاء حيرة لا إرجاء فكرة، وهذه الحيرة خاصة بقضية الحكم على المختلفين بالخطأ أو الصواب، أما موالاتهم والإقرار بفضلهم وسابقتهم فلم يكن موضوع شك عندهم.
3- الفئة الثالثة:
وهي فئة من ذلك الصنف البشري المحدود الإدراك الذي يضيق أفقه أو علمه عن تفهم الخلاف، فتثور نفسه ساخطة على طرفيه حانقة عليهما دون تبصر في الدوافع أو تريث في الحكم، فمنهم فرقة أعلنت نقمتها وسخطها على كل الأطراف، وربما كان أصل ضجرها وحنقها أن المختلفين هم أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم تكن صحبتهم دافعاً لالتماس العذر، بل كانت- حسب فهمهم- مبرراً للعداء والبراء، إذ قالوا: كيف يختلفون ويتـقاتـلون وهم أصحاب رسول الله وأعلم الناس بالدين، والأصل أن يكونوا أكثر الأمة تمسكاً ووفاقاً ودعوةً وجهاداً؟! إذن لقد انحرفوا عما كانوا عليه زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلا شك ولا ريب، ومن ثم فلا حرمة لمن نكص على عقبيه، ولا اعتبار لسابقته في الإسلام ما دامت هذه خاتمته!!!
هذه الفكرة تبناها الفكر الخارجي الذي بلغ به حنقه على الأطراف جميعها إلى تدبير مؤامرة لاغتيال زعمائها
علي و
معاوية و
عمرو بن العاص -رضي الله عن الجميع- على ما هو مشهور في التاريخ.
وعلى رأي
الملطي رحمه الله -هذه الفئة هي أصل
المعتزلة ولا يخفى ما بين
المعتزلة و
الخوارج من تشابه لا سيما في حكم مرتكب الكبيرة.
كما أن هذا هو أصل المذهب الذي يرى تخطئة وتفسيق أو تكفير كلا الطائفتين، وهو مذهب كثير من أهل الأهواء من
المعتزلة و
الخوارج وبعض المتكلمين والمتفلسفين.
وكان من هذه الفئة فرقة أقل غلواً وشططاً، فقالوا: ما حدث من الصحابة ما حدث وهم على الدرجة العليا من الفضل والعلم- إلا وفي الأمر ما لا نستطيع إدراكه ولا نأمن مغبة الحكم عليه، وإذا كنا عاجزين عن تصور حقيقة القضية، ولم يكن بالإمكان ترجيح أحد طرفيها، فلنقف موقفاً وسطاً بين القول بأنهم على الحق -الذي يتنافى مع ما بَدر منهم من خلاف واقتتال وبين القول بأنهم على الباطل- وهو ما يتنافى مع فضلهم وسابقتهم.
وهذا الموقف -في رأيهم- هو أن نبرئ أنفسنا من الوقوف مع أحد منهم أو عليه، فَنكل أمر الجميع إلى الله، وهو الذي يتولى حسابهم، أما نحن فلا نوالي أحداً منهم ولا نعاديه، ولا نشهد له بحق ولا باطل.
ولم تستطع هذه الفرقة الأخيرة أن تتجرأ على تكفير الصحابة كحال نظيرتها الأولى، ورأوا أن الذي يتفق مع موقفهم، هو اعتقاد أن ما ارتكبوه -أي: الصحابة- هو دون الشرك بالله تعالى، ومن ثَم فهم داخلون تحت المشيئة.
وهذه هي الطائفة التي يصح أن توصف بأنها أصل الإرجاء، سواء منه ما نشأ في أحضان
الخوارج وهو الأعم الأغلب، أو ما كان آراءً فرديةً ومواقف نفسيةً، مثلما ينسب إلى
الحسن بن محمد ونحوه على ما سيأتي تـفصيله في المباحث التالية.